سورة الفرقان - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الفرقان)


        


قلت: {جنات}: بدل من خيراً، و{يجعل}، من جزمه عطفه على محل جواب الشرط، ومن رفعه فعلى الاستئناف، أي: وهو يجعل لك قصوراً، ويجوز عطفه على الجواب؛ لأن الشرط إذا كان ماضياً جاز في الجواب الرفع والجزم، كما هو مقرر في محله.
يقول الحق جل جلاله: {تبارك} أي: تكاثر وتزايد خيره {الذي إن شاء جَعَلَ لك} في الدنيا {خيراً} لك {من ذلك} الذي اقترحوه؛ من أن يكون لك جنة تأكل منها؛ بأن يجعل لك مثل ما وعدك في الجنة، {جناتٍ تجري من تحتها الأنهارُ}، فإنه خير من جنة واحدة من غير أنهار، كما اقترحوا، {ويجعل لك قصوراً}؛ وغرفاً في الدنيا، كقصور الآخرة، لكن لم يشأ ذلك؛ لأن الدنيا لا تسع ما يعطيه لخواص أحبابه في الآخرة؛ لأنها ضيقة الزمان والمكان.
وعدم التعرض لجواب الاقتراحين الأولين، وهو إنزال الملك وإلقاء الكنز؛ لظهور بطلانهما ومنافاتهما للحكمة التشريعية، وإنما الذي له وجه في الجملة وهو الاقتراح الأخير؛ فإنه غير مناف للحكمة بالكلية، فإن بعض الأنبياء- عليهم السلام- قد أُتوا مع النبوة مُلكاً عظيماً، لكنه نادر.
ثم أضرب عن توبيخهم بحكاية جناياتهم السابقة، وانتقل إلى توبيخهم بحكاية جناية أخرى، فقال: {بل كذَّبوا بالساعة} أي: بل أتوا بأعجب من ذلك كله، وهو تكذيبهم بالساعة. ويحتمل أن يكون متصلاً بما قبله، كأنه قال: بل كذبوا بالساعة، وكيف يلتفتون إلى هذا الجواب، وكيف يصدقون بتعجيل مثل ما وعدك في الآخرة، وهم لا يؤمنون بها؟ ثم تخلص إلى وبال من كذَّب بها فقال: {وأعتدنا لمن كَذَّبَ بالساعة سعيراً} أي: وهيأنا للمكذبين بها ناراً شديدة الإسعار، أي: الاشتعال. ووضع الموصول موضع ضمير هم، أو لكل من كذب بها كائناً من كان، ويدخلون هم في زمرتهم دخولاً أولياً. ووضع الساعة موضع ضميرها؛ للمبالغة في التشنيع.
{إذا رَأَتْهُم} أي: النار، أي: قابلتهم {من مكان بعيد}؛ بأن كانت منهم بمرأى للناظرين في البُعد، كقوله صلى الله عليه وسلم في شأن المؤمن والكافر: «لا تترآءى نَاراهُما»، أي: لا يتقاربان بحيث تكون إحداهما بمرأى من الأخرى. {سمعوا لها تغيُّظاً وزفيراً} أي: سمعوا صوت غليانها. شُبه ذلك بصوت المتغيظ والزفير، وهو صوت من جوفه. ولا يبعد أن يخلق الله فيها الإدراك فتتغيظ وتزفر. وقيل: إن ذلك من زبانيتها، نُسب إليها، وهو بعيد.
{وإذا أُلْقُوا منها}؛ من النار {مكاناً ضَيِّقاً} أي: في مكان ضيق؛ لأن الكرب يعظم مع الضيق، كما أن الروح يعظم مع السعة، وهو السر في وصف الجنة بأن عرضها السموات والأرض. وعن ابن عباس وابن عمر- رضي الله عنهما-: (تضيق جهنم عليهم، كما يضيق الزجُّ على الرمح).
وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: «والذي نفسي بيده إنهم ليُستكرهون في النار كما يُستكره الوتد في الحائط» حال كونهم {مُقرّنين} أي: مسلسلين، أي: مقرونين في السلاسل، قُرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال. أو: يقرن مع كل كافر شيطانه في سلسة، وفي أرجلهم الأصفاد. فإذا أُلقوا في الضيق، على هذا الوصف، {دَعَوا هنالك} أي: في ذلك المكان الهائل والحالة الفظيعة، {ثُبُوراً} أي: هلاكاً، بأن يقولوا: واثبوراه؛ هذا حينُك فتعال، فيتمنون الهلاك ليستريحوا، فيقال لهم: {لا تدعوا اليوم ثُبوراً واحداً وادعوا ثُبوراً كثيراً} أي: لا تدعوا بالهلاك على أنفسكم مرة واحدة، ودعاءً واحداً، بل ادعوا دعاء متعدداً بأدعية كثيرة، فإن ما أنتم عليه من العذاب لغاية شدته وطول مدته، مستوجب لتكرر الدعاء في كل أوان. وهو يدل على فظاعة العذاب وهوله.
وأما ما قيل من أن المعنى: إنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم فيه واحداً، وإنما هو ثبور كثير، إما لأن العذاب أنواع وألوان، كل نوع منها ثبور؛ لشدته وفظاعته، أو: لأنهم كلما نضجت جلودهم بُدلوا غيرها، فلا غاية لها، فلا يلائم المقام. انظر أبا السعود. وعن أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أولُ من يُكْسَى حُلَّةً من النار إبليسُ، فيضعُها على حاجبيه، ويسحبُها من خلفه، وذُريتُهُ من بعده، وهو يقول: يا ثُبُوراه، وهم يجاوبونه: يا ثُبُورهم، حتى يَقِفُوا على النار، فيقال لهم: لا تدعوا ثبوراً واحداً...».
{قل} لهم يا محمد؛ تقريعاً لهم وتهكماً بهم، وتحسراً على ما فاتهم: {أذلك خيرٌ}، والإشارة إلى السعير، باعتبار اتصافها بما فُصِّل من الأحوال الهائلة، وما فيه من معنى البُعد؛ لكونها في الغاية القاصية من الهول والفظاعة. أي: قل لهم أذلك الذي ذكر من السعير، التي أعدت لمن كذب بالساعة، وشأنها كيت وكيت؛ خير {أم جنةُ الخُلد التي وُعِدَ المتقون} أي: وعدها الله المتقين؟ وإنما قال: {أذلك خير}، ولا خير في النار؛ تهكماً بهم. كما تقدم، وإضافة الجنة إلى الخلد؛ للمدح، وقيل: للتميز عن جنات الدنيا. والمراد بالمتقين: المتصفون بمطلق التقوى، لا بغايتها. {كانت} تلك الجنة {لهم} في علم الله تعالى، أو في اللوح، {جزاءً} على أعمالهم، {ومصيراً} يصيرون إليه بعد الموت.
{لهم فيها ما يشاؤون} من فنون الملاذ والمشتهيات، وأنواع النعيم والخيرات، كقوله تعالى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس وَتَلَذُّ الأعين} [الزخرف: 71]، ولعل كل فريق منهم يقنع بما أتيح له من درجات النعيم، ولا تمتد أعناق همهم إلى ما فوق ذلك من المراتب العالية. فلا يلزم الحرمان، ولا تساوى أهل الجنان. حال كونهم {خالدين} لا يفنون، ولا يفنى ما هم فيه، {كان على ربك وعداً مسؤولاً} أي: موعوداً حقيقياً بأن يُسْأَلَ ويُطلب؛ لكونه مما يتنافس فيه المتنافسون، أو: مسؤولاً لا يسأله الناس في دعائهم، بقولهم: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ} [آل عمرآن: 194] أو: تسأله الملائكة بقولهم: {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ التي وَعَدْتَّهُمْ} [غافر: 8] وما في {على} من معنى الوجوب، لامتناع الخُلْفِ في عده تعالى، فكأنه أوجبه على نفسه؛ تفضيلاً وإحساناً. وفي التعرض لعنوان الربوبية؛ مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم؛ من تشريفه والإشعار بأنه صلى الله عليه وسلم هو أول الفائزين بمغانم هذا الوعد الكريم ما لا يخفى. قاله أبو السعود.
الإشارة: تبارك الذي إن شاء جعل ذلك خيراً من ذلك، وهي جنة المعارف المعجلة، تجري من تحتها أنهار العلوم وفيض المواهب، ويجعل لك قصوراً تنزل فيها، ثم ترحل عنها، وهي منازل السائرين ومقامات المقربين، إلى أن تسكن في محل الشهود والعيان، وهو العكوف في حضرة الإحسان. بل كذَّبوا بالساعة، أي: من تنكب عن هذا الخير الجسيم، إنما سببه أنه فعل فِعْل من يُكذب بالساعة؛ من الانهماك في الدنيا، والاشتغال بها عن زاد الآخرة. وأَعتدنا لمن فعل ذلك سعيراً، أي: إحراقاً للقلب بالتعب، والحرص، والجزع والهلع، والإقبال على الدنيا، إذا قابلتهم من مكان بعيد سمعوا لها تَغَيُّظاً وزفيراً؛ غيظاً على طلابها، حيث آثروها على ما فيه رضا مولاها، وإذا ألقوا في أشغالها، وضاق عليهم الزمان في إداركها، دعَوا بالويل والثبور، وذلك عند معاينة أعلام الموت، والرحيل إلى القبور، ولا ينفعهم ذلك. قل: أذلك خير أم جنة الخلد؟ وهي جنة المعارف التي وُعد المتقون لكل ما سوى الله كانت لهم جزاء على مجاهدتهم وصَبْرهم، ومصيراً يصيرون إليها بأرواحهم وأسرارهم. لهم فيها ما يشاؤون؛ لكونهم حينئذٍ أمرهم بأمر الله، كان على ربك وعداً مسؤولاً، أي: مطلوباً للعارفين والسائرين. وبالله التوفيق.


قلت: {اتخذ} قد يتعدى إلى مفعول واحد، كقوله: {أَمِ اْتَّخَذُوا ءَالِهَةً} [الأنبياء: 8]، وقد يتعدى إلى مفعولين، كقوله: {واتخذ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} [النساء: 125] فقرأ الجمهور: {أن نَتَّخِذَ}؛ بالبناء لفاعل. وقرأ الحسن وأبو جعفر بالبناء للمفعول. فالقراءة الأولى على تعديته لواحد، والثانية على تعديته لاثنين. فالأول: الضمير في {نتخذ}، والثاني: {من أولياء}. و{مِن}: للتبعيض، أي: ما ينبغي لنا أن نتخذ بعضَ أولياءٍ من دونك؛ لأن {من} لا تزاد في المفعول الثاني، بل في الأول، تقول: ما اتخذت من أحد وليّاً، ولا تقول: ما اتخذت أحداً من ولي. وأنكر القراءة أبو عمرُو بن العلاء وغيره، وهو محجوج؛ لأن قراءة أبي جعفر من المتواتر.
يقول الحق جل جلاله: {و} اذكر {يوم نحشرهم}، أو: يوم يحشرهم الله جميعاً للبعث والحساب، يكون ما لا تفي به العبارة من الأهوال الفظيعة والأحوال الغريبة، فيحشرهم {وما يعبدون من دون الله}؛ من الملائكة والمسيح وعزير. وعن الكلبي: الأصنام؛ يُنطقها الله، وقيل: عام في الجميع. و{ما}: يتناول العقلاء وغيرهم؛ لأنه أريد به الوصف، كأنه قيل: ومعبودهم. {فيقول} الحق جل جلاله للمعبودين، إثر حشر الكل؛ تقريعاً للعَبَدة وتبكيتاً: {أأنتم أَضْلَلْتُمْ عبادِي هؤلاء}، بأن دعوتموهم إلى عبادتكم، {أم هم ضلُّوا السبيل} أي: عن السبيل بأنفسهم؛ بإخلالهم بالنظر الصحيح، وإعراضهم عن الرشد.
وتقديم الضميريْن على الفعلين بحيث لم يقل: أضللتم عبادي هؤلاء أم ضلوا السبيل؛ لأن السؤال ليس عن نفس الفعل، وإنما هو عن متوليه والمتصدي له، فلا بد من ذكره، وإيلائه حرف الاستفهام؛ ليعلم أنه المسؤول عنه. وفائدة سؤالهم، مع علمه تعالى بالمسؤول عنه؛ لأن يجيبوا بما أجابوا به؛ حتى يُبكت عبدتهم بتكذيبهم إياهم، فتزيد حسرتهم.
{قالوا} في الجواب: {سبحانك}؛ تعجيباً مما قيل، لأنهم إما ملائكة معصومون، أو جمادات لا تنطق ولا قدرة لها على شيء، أو: قصدوا به تنزيهه عن الأنداد، ثم قالوا: {ما كان ينبغي لنا} أي: ما صح وما استقام لنا {أن نتخذ من دونك} أي: متجاوزين إياك، {من أولياء} نعبدهم؛ لِمَا قام بنا من الحالة المنافية له، فَأَنَّى يُتَصَوَّرُ أن نحمل غيرنا على أن يتخذوا غيرك، فضلاً أن يتخذونا أولياء، أو: ما كان يصح لنا أن نتولى أحداً دونك فكيف يصح لنا أن نحمل غيرنا أن يتولونا دونك حتى يتخذونا أرباباً من دونك، {ولكن متَّعتهم وآباءهم} بالأموال والأولاد وطول العمر، فاستغرقوا في الشهوات، وانهمكوا فيها {حتى نَسُوا الذّكر} أي: غفلوا عن ذكرك، وعن الإيمان بك، واتباع شرائعك فجعلوا أسباب الهداية؛ من النعم والعوافي ذريعة إلى الغواية. {وكانوا} في قضائك وعلمك الأزلي، {قوماً بوراً}؛ هالكين، جمع: بائر، كعائذ وعوذ.
ثم يقال للكافر بطريق الالتفات: {فقد كَذَّبوكم بما تقولون}، وهو احتجاج من الله تعالى على العبدة؛ مبالغة في تقريعهم وتبكيتهم؛ على تقدير قول مرتب على الجواب، أي: فقال الله جل جلاله عند ذلك للعبدة: فقد كذبكم المعبودون أيها الكفرة، {بما تقولون} أي: في قولكم: هؤلاء أضلونا. والباء بمعنى في، وعن قنبل: بالياء، والمعنى: فقد كذبوكم بقولهم: {سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ}، والباء حينئذٍ كقولك: كتبت بالقلم.
{فما يستطيعون}؛ فما يملكون {صَرْفاً}؛ دفعاً للعذاب عنكم {ولا نصراً} أي: فرداً من أفراد النصر. والمعنى: فما تستطيع آلهتكم أن يصرفوا عنكم العذاب أو ينصروكم. وعن حفص بالتاء، أي: فما تستطيعون أنتم أيها الكفرة صرفاً للعذاب عنكم، ولا نصر أنفسكم.
ثم خاطب المكلَّفين على العموم فقال: {ومن يَظْلِمْ منكم}؛ يشرك؛ بدليل قوله: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] لأن الظلم: وضع الشيء في غير محله، ومن جعل المخلوق شريكاً لخالقه فقد ظلم ظلماً عظيماً. أي: ومن يظلم منكم أيها المكلفون، كدأب هؤلاء الكفرة، حيث ركبوا متن المكابرة والعناد، واستمروا على الملاججة والفساد، {نُذقْهُ} في الآخرة {عذاباً كبيراً} لا يقادر قدره، وهو الخلود في النار، والعياذ بالله.
الإشارة: كل من عشق شيئاً وأحبه من دون الله فهو عابد له، فرداً أو متعدداً، فيُحشر معه يوم القيامة، فيقال لهم: أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء، أم هم ضلوا السبيل؟ فيتبرؤون منهم، ويقولون: بل متعتهم بالدنيا، وألهيتهم عن الذكر والتفكر والاعتبار، أو عن الشهود والاستبصار، حتى نسوا ذكر الله وكانوا قوماً بوراً. وقد ورد: (أن الدنيا تُبعث يوم القيامة على هيئة عجوز شمطاء زرقاء، فتنادي: أين أولادي؟ فيجمعون لها كرهاً، فتقدمهم، فتوردهم النار). وقوله تعالى: {ومن يظلم منكم} أي: يخرج عن حد الاستقامة في العبودية، وشهود عظمة الربوبية، نُذقه عذاباً كبيراً، وهو ضرب الحجاب على سبيل الدوام، إلا وقتاً مخصوصاً مع العوام. وبالله التوفيق.


قلت: كُسرت (إنَّ)؛ لأجل اللام في الخبر. والجملة بعد {إلا}: صفة لمحذوف، أي: وما أرسلنا قبلك أحداً من المرسلين إلا آكلين وماشين، وإنما حذف؛ اكتفاء بالجار والمجرور، يعني من المرسلين، وهو كقوله تعالى: {وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} [الصافات: 164]، أي: وما منا أحد. وقيل: هي حال، والتقدير: إلا وأنهم ليأكلون.
يقول الحق جل جلاله: في الجواب المشركين عن قولهم: {مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِى فِى الأسواق} [الفرقان: 7]؛ تسلية لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا} وَصِفَتُهُمْ {إِنهم لَيأْكُلون}؛ بشر يأكلون {الطعامَ}، مفتقرون إليه في قيام بنيتهم، {ويمشون في الاسواق} في طلب حوائجهم، فليس ببدع أن تكون أنت كذلك، {وجعلنا بعضهم لبعض فتنةً} أي: محنة، وهو التعليل لما قبله، أي: إنما جعلت الرسل مفتقرين للمادة، وفقراء من المال، يمشون في الاسواق لطلب المعاش؛ ابتلاء، وفتنة، واختباراً لمن تبعهم، من غير طمع، ولم يعرض عنهم لأجل فقرهم، فقد جعلت بعضكم لبعض فتنة. قال ابن عباس: أي: جعلت بعضكم بلاءً لبعض؛ لتصبروا على ما تسمعون منهم، وترون من خلافهم، وتتبعوا الهدى بغير أن أعطيكم عليه الدنيا، ولو شئتُ أن أجعل الدنيا مع رسلي، فلا يخالَفون، لفعلت، ولكن قدرت أن أبتلي العباد بكم وأبتليكم بهم. اهـ.
فالحكمة في فقر الرسل من المال: تحقيق الإخلاص لمن تبعهم، وإظهار المزية لهم؛ حيث تبعوهم بلا حرف. قال النسفي: أو جعلناك فتنة لهم؛ لأنك لو كنت صاحب كنوز وجنات لكانت طاعتهم لأجل الدنيا، أو ممزوجة بالدنيا، فإنما بعثناك فقيراً؛ لتكون طاعة من يطعيك خالصة لنا. اهـ.
قال في الحاشية: وقد قيل: إن الدنيا دار بلاء وامتحان، فأراد تعالى أن يجعل بعض العبيد فتنة لبعض، على العموم في جميع الناس: مؤمن وكافر، بمعنى: أن كل واحد مُخْتَبَرٌ بصاحبه، فالغنى ممتحن بالفقير، عليه أن يواسيه ولا يسخر منه. والفقير ممتحن بالغنى، عليه ألا يحسده، ولا يأخذ منه إلا ما أعطاه، وأن يصبر كل واحد منهما على الحق الذي عليه، وتوجه إليه من ذلك؛ لأن الدار دار تكليف بموجبات الصبر، وقد جعل تعالى إمهال الكفار والتوسعة عليهم؛ فتنة للمؤمنين، واختباراً لهم. ولمّا صبروا نزل فيهم: {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ اليوم بِمَا صبروا} [المؤمنون: 111]. والحاصل: أن الله تعالى دبَّر خلقه، وخص كلاَّ بما شاء، من غِنى أو فقر، أو علم أو جهل، أو نبوة أو غيرها. وكذا سائر الخصوصيات؛ ليظهر من يسلّم له حُكمه وقسمته، ومن ينازعه في ذلك، ومن يؤدي حق ما توجه عليه من ذلك؛ فيكون شاكراً صابراً، ومن لا، وهو أعلم بحكمته في ذلك، ولذلك قال: {وكان ربك بصيراً}. اهـ.
وقال مقاتل: نزلت في أبي جهل، والوليد بن عتبة، والعاص، حين رأوا أبا ذر وعماراً وصهيباً، وغيرهم من الفقراء المسلمين، قالوا: أنسلم؛ فنكون مِثل هؤلاء؟ فنزلت الآية، تخاطب هؤلاء المؤمنين: أتصبرون على هذه الحالة من الشدة والفقر؟ اهـ.
قال النسفي: أتصبرون على هذه الفتنة فتؤجروا، أم لا تصبرون فيزداد غمّكم؟ حكي أن بعض الصالحين تبرّم بضنك عيشه، فخرج ضجِراً، فرأى خصياً في مواكب ومراكب، فخطر بباله شيء، فإذا بقارئ يقرأ هذه الآية، فقال: بل نصبر، ربّنا. اهـ.
قال القشيري: هو استفهام بمعنى الأمر، فمن قارنه التوفيقُ صبر وشكر، ومن قارنه الخذلان أبى وكفر. اهـ. وقيل: هو الأمر بالإعراض عما جعل في نظره فتنة، كما قال: {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} [طه: 131]، فينبغي ألا ينظر بعض إلى بعض، إلا لمن دونه، كما ورد في الخبر. اهـ.
{وكان ربك بصيراً}؛ عالماً بالحكمة فيما يَبْتلِي به، أو: بمن يصبر ويجزع. وقال أبو السعود: هو وعد كريم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالأجر الجزيل؛ لصبره الجميل، مع مزيد تشريف له- عليه الصلاة والسلام-؛ بالالتفات إلى إسم الرب مضافاً إلى ضميره صلى الله عليه وسلم. اهـ.
الإشارة: الطريق الجادة التي درج عليها الأنبياء والأولياء هي سلوك طريق الفقر والتخفيف من الدنيا، إلا قدر الحاجة، بعد التوقف والاضطرار، ابتداءً وانتهاء، حتى تحققوا بالله. ومنهم من أتته الدنيا بعد التمكين فلم تضره. والحالة الشريفة: ما سلكها نبينا صلى الله عليه وسلم وهو التخفيف منها وإخراجها من اليد، حتى مات ودرعه مرهونة عند يهودي، في وسق من شعير. وعادته تعالى، فيمن سلك هذا المسلك، أن يُديل الغنى في عقبه، فيكونون أغنياء في الغالب. والله تعالى أعلم.
وما وَصَف به الحق تعالى رسله؛ من كونهم يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق، هو وصف للأولياء أيضاً- رضي الله عنهم-؛ فيمشون في الأسواق؛ للعبرة والاستبصار في تجليات الواحد القهار، فحيث يحصل الزحام يعظم الشهود للملك العلام، وفي ذلك يقول الششتري رضي الله عنه: عين الزحام هو الوصول لِحَيِّنا.
وكان شيخ أشياخنا- سيدي علي العمراني- يقول لأصحابه: من أراد أن يذوق فليمش إلى السوق. اهـ. فينبغي للمريد أن يربي فكرته في العزلة والخلطة والخلوة والجلوة، ولا يقتصر على تربيتها في العزلة فقط؛ لئلا يتغير حاله في حال الخلطة؛ فيبقى ضعيفاً. فالعزلة تكون؛ ابتداء، قبل دخول بلاد المعاني، فإذا دخل بلاد المعاني فليختر الخلطة على العزلة، حتى يستوي قلبه في الخلوة والجلوة، فالعزلة عن الناس عزلة الضعفاء؛ والعزلة بين الناس عزلة الأقوياء. فالمشي في الأسواق والأكل فيها سنة الفقراء، أهل الأحوال؛ مجاهدةً لنفوسهم، وترييضاً لها على إسقاط مراقبة الخلق، والخوف منهم. وقد ورد أن الله تعالى أمر بذلك نبيه صلى الله عليه وسلم؛ تشريفاً لأهل الأحوال، كما ذكره صاحب اللباب عند قوله: {مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق...}.
ومن آداب الداخل في السوق: أن يكون ماشياً على رجليه، لا راكباً، كما وصف الله تعالى الرسل- عليهم السلام. وفي قوله تعالى: {وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون}: تسلية لمن يُبْتَلَى من الأولياء، وتهوين له على ما يلقاه من شدائد الزمان، وإذاية الإخوان، وجفوة الناس. وبالله التوفيق.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7